كلنا يستخدم "اللغة" تعبيراً عن مكنونات النفس، هذه المذاقات الدنيوية المتباينة في حدتها وفي حدودها ما بين الحلاوة والمرارة· تمثل أغلب هذه المذاقات ردود فعل طبيعية لما يواجهنا في الحياة ونواجهه من مستجدات ومتغيرات واهتزازات لثوابت كنا نتصور أنها لا يمكن أن تهتز· يجري هذا لنا على المستوى الشخصي وعلى المستوى العام، ولا نملك إلا أن نعبر عنه ضمن دوائر مختلفة في الضيق أو الاتساع فقط سنحصر البوح بالحديث الحميم، وقد يتعداه إلى استخدام وسائل إعلامية لا تحدها حدود ما بين القلم والورق، وصولاً إلى الصوت والصورة وحتى عبور الفضاء·
وهنا وبصوت خافت اعترف بأننا نحن النساء قد جبلنا على حب البوح شفاهة وتركنا مهمة التسجيل الكتابي للرجل الذي نستظل بظله في مواجهة المجتمع من جهة ولكونه المكلف دينياً وتراثياً بالرعاية الأسرية، والكتابة -كما أعلم وتعلمون- فإنها كما هي وسيلة بوح هي وسيلة استرزاق أيضاً·
بصراحة، ما كان لي أن أعير هذه الحقيقة اهتماماً لولا أن وقع بين يدي كتاب "المرأة واللغة" للدكتور عبدالله محمد الغذامي· هذا الباحث والكاتب والأستاذ الجامعي السعودي المبدع فكراً وعبارة· لقد صدر هذا الكتاب 1996، ولكنه لم يقع بين يدي إلا منذ عام واحد أثناء إحدى رحلاتي وتوقفي كالعادة عند مكتبة المطار· كتاب عجيب ما وجدت له شبيهاً، وللكتب معالم وأشباه مثل البشر، فهناك كتاب تكفيه منك لمحة بصر حتى تعرض عنه، وكتاب يدعوك للعبث عبر صفحاته لعلك تجد بين دفتيه ما يستحق التوقف، والقرار هنا يحدد النتيجة، وكتاب يسبقك إليه ملقط الاسم والموضوع فتأخذه للانضمام إلى إخوته بانتظار حاجة طارئة أو فسحة زمنية تعطيه فيه اهتماماً بدون تجزئة، وكتاب يأخذ بتلابيب نفسك عقلاً وروحاً تدفعك إليه عجلة الفضول فتتصفحه وتقرأ بعضاً منه وتدفع ثمنه مدركاً بأن مكسبك يفوق تلك الدريهمات العابثة في جيبك بانتظار تحريرها مقابل فنجان القهوة على أحد أرصفة الثرثرى· وهذا ما حدث لي عندما تناولت كتاب الغذامي الذي أزعم أن اللغة العربية ما عرفت في حياتها الرضا والاطمئنان مثلما عرفته في أحضانه· ولأنني أشاركه >عشق الجمال< فقد ظل كتابه يلاحقني في كل مكان رغم أنني قرأته منذ زمن، حتى داخلني شعور بأنه يلحق بي مما يدفعني أن استجيب له واقرأ صفحة تجر الأخرى، ويشغلني أمر آخر فأنصرف عنه وأمام فشلي في وضعه على الرف مع إخوته أراه يلحق بي، حتى قررت أن أقدمه لكم فإذا بمارد الصعوبة والعسر يواجهني ويدخلني في مخاض عقيم· استنجدت للخلاص منه بمعلومات قديمة بالنقد مضى عليها نصف قرن أخذتها على يد العلامة د· محمد مندور فلم تنجدني وأصبحت كالعاشقة الطفلة المطالبة بالتعبير عما يخالجها، فلا تجد الحروف حتى تجمعها فتكون الكلمة التي تجمع إخواتها لتكون الجملة لذلك قررت أن آخذكم إلى بعض من شذرات تفترش ذاكرتي···
- ما أعظم هذه المرأة التي انتظرت طويلاً حتى بلغ وقوع الظلم عليها أقصى المدى حتى تنفست >اللغة< تعبيراً عن مأساتها الحضارية·
- إن التهميس للنساء سلوك عالمي، جاءت الأديان لإلغائه لتحريرها واختتمهم الإسلام ولكن الرجل تدخل باسم ثقافته المتوارثة وسيطرته على اللغة وحرّم عليها هذا الحق الإنساني اتباعاً لوصية خير الدين ابن الثناء في مخطوطته (الإصابة في منع النساء من الكتابة)·
- يتمحور البحث حول مقولة عبدالحميد بن يحيى الكاتب (خير الكلام ما كان لفظه فحلاً ومعناه بكراً)، ويرى الكاتب في ذلك قسمة ثقافية يأخذ منها الرجل أخطر ما في اللغة (اللفظ) عماد البناء، ويترك للمرأة المعنى المنبثق فيه ظلاً وخضوعاً·
- ولدت الفلسفة في مجتمع ذكوري وقد كان أفلاطون يأسف بأنه ابن عم امرأة، والقانون رجل، لذا فالتشهير بالمرأة حق من الحقوق اللغوية (منطق حضارة الغرب)·
- إن الرجل أصل وغاية يكتب في غياب الأنثى ويقرأ ويفسر وحده ويقرر مصير المعاني والدلالات منذ كانت المعاني أنثى حسب منطق عبد الحميد الكاتب·
هذا بعض من مستصغر الشرر الذي قال عنه الشاعر إنها تكون النار·
فإلى لقاء آخر يتبع لاحقاً·